إسرائيل- من الدولة العلمانية إلى الدولة الدينية الصهيونية.

المؤلف: د. عبد الله معروف10.08.2025
إسرائيل- من الدولة العلمانية إلى الدولة الدينية الصهيونية.

من أهم القواعد الراسخة التي تؤثر في مسيرة الدول والمشاريع السياسية الكبرى، نجد التحول التدريجي من مرحلة إلى أخرى، وهو الأمر الذي يمثل في جوهره ولادة دولة جديدة، ذات مفاهيم مغايرة ورؤى أكثر اتساعًا. التاريخ حافل بالأمثلة الدالة على ذلك، ولعل الجمهورية الفرنسية تعد من أبرز هذه الأمثلة وأكثرها وضوحًا؛ حيث شهدت فرنسا تقلبات وتحولات جمة على مدى ثمانين عامًا تلت اندلاع الثورة الفرنسية. ففي تلك الحقبة، بزغت الجمهورية الفرنسية الأولى، ثم ما لبثت أن هوت في عهد نابليون، لتعود بعدها الجمهورية الثانية إلى الوجود، ثم تؤول إلى السقوط مرة أخرى وتعود الملكية إلى فرنسا، قبل أن يستقر الحال في نهاية المطاف على قيام الجمهورية الفرنسية الثالثة، التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

إسرائيل، بدورها، ليست بمنأى عن هذه القواعد التاريخية الثابتة؛ فالتغير في شكل نظام الحكم وطبيعة المشروع الإسرائيلي قد حدث بالفعل على مر العقود الماضية، ويستمر في التبلور اليوم أمام أعيننا بسرعة متزايدة. وهذا الأمر يستلزم من المراقبين والمحللين على حد سواء، ضرورة تسليط الضوء على هذا التحول الجوهري الذي تشهده طبيعة هذه الدولة، واستكشاف أبعاده المختلفة، وتوقع النتائج المحتملة المترتبة عليه، واقتراح سبل التعامل معه في ظل التغيرات الهائلة والمتسارعة التي تشهدها المنطقة، والتي جعلت من الأربعة والعشرين ساعة مدة زمنية طويلة جدًا في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
list 1 of 2

فاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها

list 2 of 2

أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل

end of list

إسرائيل تعيش حاليًا منعطفًا حاسمًا في تاريخها، وهي ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مثل هذا التحول العميق. فلقد مرت إسرائيل في السابق بمراحل تحول جذرية في طبيعتها، ويمكننا إجمال هذه التحولات في ثلاث مراحل أساسية:

  • المرحلة الأولى: الدولة اليسارية العلمانية

عقب النكبة عام 1948، كانت الشخصيات التي أسست دولة الاحتلال الإسرائيلي عبارة عن نخب يسارية علمانية، متشبعة بالقيم والمفاهيم الأوروبية. ولذلك، اعتبرت إسرائيل في بداياتها نفسها امتدادًا للقارة الأوروبية، ولم تكن تنظر إلى الدين اليهودي إلا باعتباره مجرد تراث ينبغي استغلاله لخدمة المشروع السياسي الصهيوني، بهدف استقطاب أكبر عدد ممكن من اليهود حول العالم إلى الدولة الوليدة.

وانطلاقًا من ذلك، تم التوصل إلى الاتفاق الشهير بين العلماني ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، وجماعة "أغودات إسرائيل" التي كانت تمثل اليهود المتدينين الحريديم؛ حيث أرسل بن غوريون رسالة إليهم في 19 يونيو/ حزيران 1947، أي قبل أقل من عام على إعلان قيام إسرائيل. وتعهد بن غوريون في رسالته بأن تحافظ الدولة المنشودة على احترام بعض الشعائر الدينية اليهودية الاجتماعية، مثل: إجراءات الزواج، والطعام الكوشير، وإجراءات الدفن، بالإضافة إلى إمكانية تطبيق الطقوس الدينية الخاصة بالسبت، وغيرها في أحياء المتدينين فقط.

بقي هذا التوجه الذي مثله حزب العمل الإسرائيلي مهيمنًا على مقاليد الحكم في الدولة خلال السنوات الثلاثين الأولى من عمرها، إلى أن بدأت أولى رياح التغيير تهب على شخصية إسرائيل السياسية، مع سقوط حكومة العمل وقيام حكومة اليمين الأولى على يد مناحيم بيغن عام 1977.

  • المرحلة الثانية: الدولة اليمينية القومية

مع وصول بيغن إلى السلطة، دخلت إسرائيل في مرحلة مخاض التحول الأولى، والتي ظهر خلالها اليمين القومي العلماني ممثلًا بحزب الليكود، الذي اعتبر نفسه أقرب إلى المتدينين المحافظين، وإن حافظ على علمانيته العامة.

تعامل هذا التيار اليميني مع فكرة يهودية الدولة باعتبارها فكرة قومية لا تتعارض مع الدين، ودخل في صراع مع التيار اليساري الذي أسس الدولة على امتداد الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وخاصة مع حكومة شامير التي شهدت انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وحكومة نتنياهو الأولى عام 1996، إلى أن تمكن التيار اليميني في نهاية المطاف من حسم الصراع والسيطرة المطلقة على حكومة إسرائيل بزعامة أرييل شارون عام 2001 خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

هنا ولدت إسرائيل الثانية، التي أصبحت دولة قومية يمينية علمانية لا تتعارض مواقفها مع التيارات الدينية فيها. وأصبح الحكم ينتقل من رئيس حكومة يمينية علمانية إلى آخر، فتولى رئاستها شارون، ثم إيهود أولمرت، ثم نتنياهو في حكوماته الأربعة الماضية، إلى أن انتهت سيطرة هذا التيار فعليًا مع سقوط آخر حكومة تنتمي إليه، وهي حكومة نفتالي بينيت.

  • المرحلة الثالثة: الدولة الصهيونية الدينية

انتهت سيطرة التيار القومي اليميني فعليًا مع نهاية حكومة بينيت؛ لأن حكومة نتنياهو الأخيرة الحالية لا يمكن اعتبارها جزءًا من فترة سيطرة اليمين العلماني الذي تحدثنا عنه آنفًا، فهي تختلف تمامًا عن حكومات نتنياهو الخمس السابقة.

هذه الحكومة تشهد ولادة تيار جديد في قيادة الدولة، يقيم دولة إسرائيلية ثالثة بفكر جديد ونظام جديد، تجاوز التيارين: اليساري المؤسس، واليميني القومي العلماني. هذا التيار الجديد الذي يتقدم الآن بقوة وبدأ يسيطر على الدولة بالفعل هو تيار الصهيونية الدينية.

هذا التيار يميني، لكن لا يمكن وصفه بالعلمانية القومية كحال حزب الليكود، وإنما هو تيار يميني ديني قومي متطرف، يؤمن بالرؤية الدينية الخلاصية التي تحكم كافة تحركاته، لا كتلك التيارات السابقة التي كانت تعتبر الدين مجرد وسيلة للوصول إلى جمهور يهودي أوسع. هذا النوع الجديد لم يكن له قوة تذكر في العقود الماضية، وبرزت قوته في السنوات الأخيرة فقط، ليصعد صعودًا دراماتيكيًا إلى سدة الحكم في إسرائيل في حكومة نتنياهو الحالية.

يتلخص الفرق الجوهري بين هذا التيار والتيارات اليمينية القومية الأخرى، في أنه لا يستخدم الدين لأغراضه السياسية، وإنما يخطط ويوجه السياسة لخدمة رؤيته الدينية. فهو يرى أن دولة إسرائيل يجب أن تتحول إلى دولة شريعة، تكون فيها الدولة في خدمة الشريعة اليهودية وليس العكس.

كما أنه يتجاوز الأحزاب الدينية المحافظة في كونه حركيًا لا يؤمن بالتقاليد الجامدة وعقيدة الانتظار، بل يؤمن بأنه يجب عليه استجلاب كافة نبوءات الكتب المقدسة وتحقيقها باليد. وهو ما يجعل إسرائيل الثالثة التي تتشكل الآن دولة ثيوقراطية دينية صهيونية، تتعامل مع الواقع الذي حولها لا بالمنطق الجيوسياسي، وإنما بمنطق النبوءات والرؤى والنصوص الدينية التي تحكم قرارات هذه الدولة.

السلوك الإسرائيلي الحالي

إذا ما أخضعنا السلوك الإسرائيلي الراهن لمعايير هذا التصور، فإنه سيغدو العامل الوحيد القادر على تفسير هذا السلوك غير العقلاني الذي طبع أداء إسرائيل خلال العام المنصرم.

فالاندفاع غير المنطقي نحو تصعيد وتيرة الهجوم، وتوسيع نطاق الحرب، وفتح جبهات قتال إضافية، وتجاوز كل ما كان يُعد في السابق من المحظورات التي لا يمكن الاقتراب منها، وخرق كافة قواعد الاشتباك والعقائد التي استندت إليها إسرائيل في العقود السبعة الماضية، بالتزامن مع الانتقال المتسارع للجيش الإسرائيلي من فشل استراتيجي إلى آخر في قطاع غزة على وجه التحديد، لا يمكن فهمه إلا في سياق القناعة الراسخة لدى أفراد هذا التيار الحاكم في إسرائيل بوجوب تدارك ما يعتبرونه قصورًا وإخفاقًا في العقود الماضية.

يكمن القصور، حسب تصور هذا التيار، في أن إسرائيل الأولى والثانية قد أخطأتا في ظل حكم اليسار واليمين العلمانيين، لعدم السعي الجاد لتحقيق الرؤية الدينية التي تتضمنها النصوص المقدسة، والتي تحدد شكل هذه الدولة ومستقبلها المسيحاني الخلاصي المتمثل في استجلاب الوعود الدينية المذكورة في التوراة والتلمود، وعدم التعامل مع هذه النصوص بجدية كافية، مما يستدعي في نظر هذا التيار غضب الرب على هذه الدولة بدلًا من إحلال بركاته عليها. ومن المفترض أن تتجسد بركات الرب بدورها في حلول روح الرب في بيته (المعبد الثالث المزعوم)، ليكون مع شعبه ويهديه من خلال المسيح المنتظر.

ويرى هذا التيار أنه الآن يحقق فعليًا إرادة الرب كما تتجلى في النصوص الدينية المقدسة، والتي تنص على ضرورة سكن شعب الله في أرض الميعاد بالكامل. لذلك، فإن ممثلي وقادة ورموز تيار الصهيونية الدينية لا يترددون في الإشارة بوضوح إلى طموحهم في التوسع الاستيطاني، بل وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل.

قد يظن البعض أن وجود نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية يعني أن هذا التيار لا يسيطر على الدولة، لأن نتنياهو هو أحد أهم وجوه إسرائيل الثانية بشكلها القومي العلماني. لكن هذا القول يتجاهل حقيقة أن نتنياهو اليوم ليس هو الذي يقود الحكومة فعليًا، وإنما يقودها ويوجهها تيار الصهيونية الدينية بزعامة سموتريتش وبن غفير، وهذه حقيقة لا يكاد يختلف عليها اثنان لا داخل إسرائيل ولا خارجها.

وإذا كان نتنياهو يظن اليوم أنه يستخدم قوة هذا التيار في سبيل البقاء على رأس الحكم، فإن هذا التيار يستخدم نتنياهو في نفس الوقت كي يثبت أركان سلطته في الدولة الجديدة التي يتم تشكيلها الآن. وما إن يرى هذا التيار أن نتنياهو قد استنفد فائدته فإنه سيتخلص منه ببساطة، لكن ليس قبل أن تضمن قيادة هذا التيار أنها تخلصت من عائق "الديمقراطية" و"الانتخابات" التي ترى أنها غير مقبولة دينيًا؛ لأنها قد تنتج قيادة بعيدة عن الدين في نظرها. بمعنى أن هذا التيار يسعى فعليًا لتجاوز فكرة إسرائيل التي قامت عليها ابتداءً باعتبارها دولة "علمانية ديمقراطية" كما أرادها آباؤها الأوائل.

هذا الفهم لهذه الدولة الجديدة يفرض علينا واقعًا جديدًا ومقاربات ومعادلات جديدة في كيفية التعامل معها. ولعل غياب فهم هذا الواقع هو المشكلة الأساسية لدى أغلب دوائر صنع القرار في العالم العربي والإسلامي اليوم سواء الحكومية أو الفصائلية الحركية أو الشعبية.

فإسرائيل الثالثة اليوم لا يمكن التعامل معها بنفس الأدوات التي طالما تعاملت بها الأطراف العربية والإسلامية مع إسرائيل الأولى أو الثانية، وذلك لأنها لا تحكمها نفس الأيديولوجيا التي أقامت إسرائيل الأولى في عقودها الأولى أو التي حكمت إسرائيل الثانية خلال العقدين الماضيين.

إسرائيل التي تتشكل اليوم ليست دولة ذات مؤسسات سياسية أو أمنية إستراتيجية، وإنما هي دولة ذات رؤية دينية متصلبة تؤمن لأول مرة بالقطعيات ولا تؤمن بالتوافقات أو التنازلات. وبالتالي، فلنكن صريحين بأنه لا يمكن التعامل معها إلا بالقطعيات كذلك؛ لأنها اللغة الوحيدة التي تفهمها.

وقد أثبتت الأيام الماضية أن سياسة "الصبر الإستراتيجي" و"اللعب السياسي" مع دولة إسرائيل الثالثة الجديدة ليست ذات جدوى، بل إنها تساهم في تقوية هذا المشروع الجديد وإنعاشه؛ لأنه لا يفهم لغة السياسة، ويعتبر أي تريث في الفعل والردع ضعفًا مغريًا بالتقدم حتى النهاية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة